فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (35):

قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي أنك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمرأن لاسيما في الولادة، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاويًا لمن قبل: {إذ} أي اذكر جوابًا لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين {قالت امرأة عمران} وهي حامل.
وقال الحرالي: لما كان من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفضيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذرًا، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة {رب إني نذرت لك ما في بطني} وكان نذر الولد شائعًا في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهودًا في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال- كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع» فذكر مريم بنت عمران عليها السلام، فكان من كمالها خروج والدتها عنها، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه، ولذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- أري إبراهيم عليه الصلاة والسلاح ذبح ولده عند تمييزه، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها- انتهى.
ونذرته لله تعالى حال كونه {محررًا} أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه، قال الحرالي: والتحرير طلب الحرية، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى- انتهى.
{فتقبل مني} ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت: {إنك أنت} أي وحدك {السميع العليم} فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {ربنا تقبل منا} [البقرة: 127]، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{مني إنك} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو.
{بما وضعت} على الحكاية: ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد. الباقون {وضعت} على الغيبة.
{وإني أعيذها} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع.
{وكفلها} مشددة: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون خفيفًا {زكريا} مقصورًا كل القرآن: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب هاهنا. الباقون بالمد والرفع.
{فناديه} بالياء والإمالة: علي وحمزة وخلف. الباقون {فنادته} بتاء التأنيث {في المحراب} بالإمالة حيث كان مخفوضًا. قتيبة وابن ذكوان {إن الله} بكسر إن: ابن عامر وحمزة. الباقون بالفتح.
{يبشرك} وما بعده من البشارة خفيفًا: حمزة وعلي. الباقون بالتشديد {لي آية} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير.

.الوقوف:

{مني} ج للابتداء ولاحتمال لأنك {العليم} o {أنثى} ط لمن قرأ {بما وضعت} بتاء التأنيث الساكنة، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها.
{بما وضعت} ط {كالأنثى} ج للابتداء بأن، ولاحتمال أن المجموع كلام واحد من قولها على قراءة من قرأ {وضعت} بالضم {الرجيم} o {حسنًا} ص لمن قرأ {وكفلها} مخففًا لتبدل فاعله، فإن فاعل المخفف {زكريا} وفاعل المشدد الرب. وقد يعدى إلى مفعولين كقوله: {أكفلنيها} [ص: 23] {المحراب} (لا) لأن {وجد} جواب {كلما} {رزقًا} ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف {هذا} ط {من عند الله} ط {حساب} o {ربه} ج لما قلنا في {رزقًا} {طيبة} ج للابتداء ولجواز لأنك {الدعاء} o {في المحراب} (لا) وإن كسر إن لأن من كسر جعل النداء في معنى القول: {الصالحين} o {عاقر} ط {ما يشاء} o {آية} ط {والإبكار} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عادل:

في الناصب لـ {إذْ} أوجه:
أحدها: أنه اذكر مقدَّرًا، فيكون مفعولًا به لا ظرفًا، أي: اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس.
الثاني: أن الناصب له معنى الاصطفاء، أي: {اصْطَفَى} مقدَّرًا مدلولًا عليه بـ {اصْطَفَى} الأوَّل والتقدير: واصطفى آل عمران- إذ قالت امرأة عمران. وعلى هذا يكون قوله: {وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران: 33] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت، وليس كذلك؛ لتغاير الزمانَيْن، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره.
الثالث: أنه منصوب بـ {سميع} وبه صرح ابن جرير الطبري، وإليه نحا الزمخشري؛ فإنه قال: سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها، و{إذْ} منصوب به.
قال أبو حيّان: ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لأن قوله: {عَلِيمٌ} إمّا أن يكون خبرًا بعد خبر، أو وصفًا لقوله: {سميع} فإن كان خبرًا فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما، وإن كان وَصْفًا فلا يجوز أن يَعْمَل {سَمِيعٌ} في الظرف؛ لأنه قَدْ وُصِفَ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له- إذ ذاك- أن يعمل، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك؛ لأن اتصافه تعالى بـ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لا يتقيد بذلك الوقت.
قال شهابُ الدين: وهذا القدر غيرُ مانع؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره، ولذلك تقدم على ما في خبر أل الموصولة وما في خبر أن المصدرية.
وأما كونه- تعالى- سميعًا عليمًا لا يتقيد بذلك الوقت، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام، وعلمه- تعالى- بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك، والتغيُّر في السمع والعلم، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات.
الرابع: أن تكون إذ زائدةً، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ، والتقدير: قالت امرأة عمرانَ، وهذا غلط من النحويين، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئًا؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى- من غير ضرورةٍ لا يجوز، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو.
الخامس: قال الأخفش والمُبَرِّد: التقدير: ألم تر إذْ قالت امرأة عمران، ومثله في كتاب الله كثير. اهـ.
فصل:
قال ابن عادل:
امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم، وهي حنة- بالحاء المهملة والنون- وجدة عيسى عليه السلام وليس باسم عربي.
قال القرطبيُّ: ولا يُعْرَف في العربية حنة: اسم امرأة- وفي العرب أبو حنة البدريّ، ويقال فيه أبو حبة- بالباء الموحَّدة- وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر أيضا يقال له كذلك.
قال أبو نواس:
يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ ** مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي

وفي العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك- المذكور في حديث سبيعة الأسلمية، ولا يعرف خَنَّة- بالخاء المعجمة- إلا بنت يحيى بن أكثم، وهي أم محمد بن نصر، ولا يُعْرَف جَنَّة- بالجيم- إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر، نقل هذا كله ابنُ ماكولا.
وعمران بن ماثان، وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقيل: عمران بن أشهم، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ، وهي أخت حنة أم مريم، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة. اهـ.

.قال الفخر:

في كيفية هذا النذر روايات:
الرواية الأولى: قال عكرمة: إنها كانت عاقرًا لا تلد، وكانت تغبط النساء بالأولاد، ثم قالت: اللهم إن لك علي نذرًا إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته.
والرواية الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت، وكانت يومًا في ظل شجرة فرأت طائرًا يطعم فرخًا له فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولدًا فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت جعلته لله محررًا، أي خادمًا للمسجد، قال الحسن البصري: إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {مَا فِي بَطْنِي} أتى بـ {ما} التي لغير العاقلِ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه بـ {ما}.
ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحًا من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره: ما هذا؟ ولو عرفته إنسانًا وجهلت كونه ذكرًا أو أنثى، قلت: ما هو أيضا؟ والآية من هذا القبيل، هذا عند مَنْ يرى أن ما مخصوصة بغير العاقل، وأما من يرى وقوعها على العقلاء، فلا يتأوَّل شيئًا.
وقيل: أنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه بما التي لغير العُقَلاء. اهـ.

.قال الفخر:

المحرر الذي جعل حرًا خالصًا، يقال: حررت العبد إذا خلصته عن الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته، وخلصته فلم تبق فيه شيئًا من وجوه الغلط، ورجل حر إذا كان خالصًا لنفسه ليس لأحد عليه تعلق، والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصًا للعبادة عن الشعبي، وقيل: خادمًا للبيعة، وقيل: عتيقًا من أمر الدنيا لطاعة الله، وقيل: خادمًا لمن يدرس الكتاب، ويعلم في البيع، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفًا على طاعة الله، قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى، وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير بين المقام والذهاب، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {مُحَرَّرًا} في نَصبه أوجه:
أحدها: أنها حال من الموصول- وهو {مَا فِي بَطْنِي}- فالعامل فيها {نذرت}.
الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار؛ لوقوعه صلة ما وهو قريب من الأول، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور.
الثالث: أن ينتصب على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف، وعلى هذا، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف، تقديره: نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويجوز أن يكون ما انتصب على المعنى؛ لأن معنى {نَذَرْتُ لَكَ}: حرَّرتُ لك ما في بطني تحريرًا، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وقوله: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18]- في قراءة من فتح الراء- أي: كلَّ تمزيق، فما له من إكرام.
ومثله قول: [الوافر]
ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ** فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا

أي تسريحي القوافي.
الرابع: أن يكون نعتًا لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: غلامًا مُحَرَّرًا، قاله مكيُّ بن أبي طالب- وجعل ابنُ عطية، في هذا القول نظرًا.
قال شهاب الدين: وجه النظر فيه أن نذر قد أخذ مفعوله- وهو قوله: {مَا فِي بَطْنِي} فلم يتعد إلى مفعول آخرَ، وهو نظر صحيح.
وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالًا مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة- كما جاء في التفسير، ووقف أبو عمرو والكسائي على امرأة بالهاء- دون التاء- وقد كتبوا امرأة بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف {امرأة العزيز} موضعين- و{امرأة نوح}، و{امرأة لوط}، و{امرأة فرعون}، وأهل المدينة يقفون بالتاء؛ إتباعًا لرسم المصحف، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة: حمزت.
وأنشدوا:
وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ ** مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ